نهاية حب

كان يغلق النوافذ… حين يمر بغرفة من غرف هذه الدار، تعود ذاكرته إلى تلك الأيام الجميلة التي قضاها معها، والتي انتهت اليوم.

ضيق نفس لا يطاق.. الغرف قد فقدت نضرة الحياة، و خيم الظلام عليها، و نسج عنكبوت البؤس بيوته في زواياها.. لقد أصبح المنزل بما رحب أضيق عليه من سجن صغير..أما سجّانه – أقصد من ملكت قلبه وسيطرت على فكره و لبّه و التي كانت تتردد في نفسه مع كل نَفَس و كل نبضة – كانت تنتظره في الخارج…أتدرون لماذا تأخر في الداخل؟!

إنه يريد أن يودع آخر ما بقي له من ذكريات معها.. يريد أن يتزود من هذه اللحظات زاداً لفترة لا يعلم لها قراراً:هناك.. هناك في الشرفة كانت تقف و تنظر إلى ذلك الوادي الهادئ و تلك الجبال الراسخة التي تريد أن تتكلم و تقصّ قصة الحياة.. ( و لعله يأتي يوم و تخبر بخبر هذا الفتى و فتاته ).. كانت هذه الجبال جرداء مقفرة كأنها قد فقدت حبيباً ماتزال تبكي على ثراه، و تنشر مع بكائها خبراً لا أستطيع أن أكتب عنه شيئاً.. فمن أراد أن يعرفه، فليذهب إلى هناك و ليسمعه بنفسه، أما وصف الواصف فلن ينفعه.كان يحاول أن يقترب منها ليغذي روحه و يمدها بحنان الجمال و دفء الوصال، فيشعر آنذاك بقلبه وكأنه طبل يقرع، فتتراقص رئتاه فرحاً و طرباً لنغمته.. و .. لكنها حينئذٍ تتركه و تغادر مسرعة.. أهو الدلال؟ أم إنها لا تحبه؟!

تالله قد علمت أن لو طلبت روحه لكان في تقديمها لها أسرع من لمح البصر، و أن لو أشارت عليه لكان أطوع لها من بنانها.. لا ما كنت لأظلمها… فلعله جلال الموقف و عظمة اللقاء، أو لعله لمعان الرغبة أو الرهبة!!ماذا قلت؟ رغبة و رهبة!! ما الذي أقصده من ذلك؟! أهو الرغبة في اللقاء.. في النظر إليها.. رغبة في الحديث معها؟!

لست أدري و إلا فخبروني لماذا في لقائها تستحيي النظرات و تتلعثم الكلمات؟ أهي الرهبة؟

[ إن أكثر ما آلمني في هذه الحياة أننا لانعلم من الحب سوى هذه الأحرف، الحاء و الباء. في الحاء يتمثل الحنان، و عند النطق بالباء ترتسم على الشفاه قبلة لعلها صغيرة لكنها قبلة كلمة “الحب”.. و لعلي بالناس جميعهم يمثلون النقطة في أسفل هذه الباء ][1]

الحب ياسادتي.. أوسع من هذا.. الحب لاتسعه الدنيا بأكملها.. و لكن مع هذا يسكن في ذلك المكان الصغير: القلب!!

كان ربما ينظر في وجهها – ولا تسل عن حسن ذلك الوجه – فتتـثبتْ عيناه على عينيها.. لقد كانت عيناها السوداويتان كغابة نخيل خضراء.. خضراء لكن سواد الليل جعلهما سوداويتين.. لكنه سواد له مثيل في الدنيا كلها…

غابة.. نعم إنها – أي عيناها – كغابة.. و أي غابة هذه؟! لقد كانت هذه الغابة من الجمال بحيث أنها تجذب الناظر إليها.. فيدخل.. و لا يزال يتوغل….. و عندما يصحو يكون قد فات الآوان، يكون قد ضاع في هذه الغابة…[2]

خرج.. وركبا الحافلة قاصدين داريهما.. كان آخر عهده بها .. لن يرها بعد الآن…

قد عرفها فيما مضى.. فالسعادة كل السعادة حين تأتي.. و الهجر ما أشد ألم الهجر.. أما الآن فهذا وداع فرقة لاعودة بعدها..

ياصاحبي تمثل بقول الشاعر:

يالهفة النفس على غابـــــــــــــة      كنتُ وهنداً نـلـتـقي فيــــــــــــــها
أنا كما شاء الهوى و الصـــــــبا      وهي كما شاءت أمانـــــــــــــــها
تكاد من لطف معانــــــــــــــيها      يشربها خاطرُ رائيــــــــــــــــــها
آمنت بالله و آياتـــــــــــــــــــــه      أليس أن الله باريـــــــــــــــــــــها
الله لو دام زمان الهــــــــــــوى      و دام من هند تجنيـــــــــــــــــــها
لا غابتي اليوم كعهدي بـــــــها      و لا التي أحببتها فيــــــــــــــــــها

أجل لم تعد غابتك …

أعذروني على هذا الوصف المتشاءم، ولكن عذري في كوني أنظر بعينيه … أجل، هذه مشاعره…
و لست أدري – والله – لماذا يشعر هكذا؟

أليس هو نفس الشخص الذي كان يشعر – عندما عرف هذه الفتاة – بأن الدنيا مشرقة و أن شمس الحياة لا تغيب، و أن أمانيه جميعها تتمثل في لقائها.. الدروب فرشت ببساط أخضر تدل على ربيع الحياة، و الورود على جوانبها تنشرعبق النعيم، و نور الحب يضئ الطريق.. و السماء زرقاء صافية تتنزّل منها الرحمة، رحمة الحب، فتتشكل منها سواقي و أنهاراً، فلا يملك إلا أن يلقي نفسه في هذه الأنهار العذبة علّها تطفئ لهيب فؤاده…
و في الليل يبثّ الضياءَ قمرُ الود، و أي ضياء هذا الضياء؟ ضياء يبعث في الصدور النشوة، و [في القلوب الرغبة، و في الأعصاب رعشة يُطرب لها الجسم كله][3]…

إنها أمور لا يعرف لذتها إلا من ذاق طعم الحب و نام على أيدي الهوى و رضع من ثدي الغرام..

فلا إله إلا الله ماأعجب حال العشاق..

لقد تركته محبوبته فانقلبت هذه المشاعر إلى ضدها.. ما الذي تغير؟
[الدنيا نفسها و الهواء الذي نتنفس نفسه و الدروب هي نفسها..][4]

الحياة كلها لم تتغير و لكن أنى لنا إقناع المحبين بهذا…

لقد قنع المسكين من الفرح بالخلوة مع الذكريات، و من الضحك بالدموع على الأطلال، ومن الحياة بالموت…

ضيق صدر… دموع… موت…

أفنعجب بعد هذا إن عاد الرشد إلى عاشق فحاول نسيان محبوبته؟ أفنرميه بكذب العاطفة، و سوء المعشر و فساد الباطن؟

أرجوكم لا يكون أحدكم كهؤلاء الأعراب الذين عابو بيت “كُـثّـير”:

أريد لأنسى ذكرها فـكـأنـمــا      تمـثّـل لي ليلى بكـل سـبـيـــل

[قالوا: لماذا يريد أن ينساها؟][5]

يريدون أن يسمعوا كلاماً حَسَن الصنع، جميل البيان، لطيف السمت، يمتعون به جوارحهم و يروون به ظمأ قلوبهم على حساب هذا الشاعرالذي يصلى في السعيرناراً حامية!
بل قد وصلت السفاهة بأحدنا أن قال لو تزوج المجنون بليلاه لفقدت الكتب شعراً تطرب له النفوس و تهتز له الأبدان !!

على كل حال، هل قلت إنه الفراق؟ أو إنه آخر العهد بها؟

كلا… لقد شاء الله أن يراها من جديد… يراها في مكان لذة للناظرين، و متعة للحاضرين. بل به تقرّ عيون العشاق و تهدأ به حملات جيش الهموم، و ترقى درجَ السكينة روحُ المشتاق… في هذا المكان جُـمعت مظاهر جمال الطبيعة مع مظاهر جمال البشرية…

و على تجدد الأحلام و الآلام، لم يكن بينهما كلام بل نظرات… و حسبكم بها مبلغاً…

هاهي عيناه تخبرها:

يـطـول اليـوم لا ألـقـاك فـيـــه      وعــــــــــــام نـلـتـقـي فــيــه قــصيـر

فكأني بغينيها تجيبه:

تمتع بـذا الـيـوم القصير فإنـــه      رهــيـن بـأيـــام الشـهور الأطـــــاول

وتذكرها عينيه بيوم الفراق:

قـال لي فـيـك عـُتــيقٌ مـقـالاً      فَـجَـرَتْ ممــا يـقـول الـدمـــــــــــــوع
قـال لي ودع سليمى ودعـهـا      فأجـــــــــــاب الـقــلب لا أستطيـــــــع

و تبثّـها عينيه معاناته و آلامه في بُـعده عنها:

وكنتُ إذا وجدت أوار الحب في      كبدي أقبلتُ نحو سقاء الـقـوم أبتــردُ
هبيني بَرَدتُ ببرد الماء ظاهـره      فمن لـــــــــنـارٍ على الأحشاء تـتـقـدُ

فترد عليه مجيبة:

هل الحب إلا زفرة بعد زفــــرة و      حــر عـلـى الأحشـاء ليس لـه بـرد

فيقول:

صبرتُ ولا والله مابي جـلادة      على الصبر لكني صبرتُ على رغمي
كـفـاكِ بحق الله ما قد ظلمتني      فـهـذا مـقـام المستجـيـر من الظلــــــــم

فتقول له، دالةً إياه إلى سبيل يتداوى بها من عشقه إياها:

قـد زعـمـوا أن المحب إذا دنـا      يمـلّ وأن النـأي يشـفي مـن الوجـــــد

فتدمع عيناه ويجيب:

بكـل تداوينا فلم يشف ما بـنـا      على ذاك قربُ الدار خير من البعــــــد

و يعود و يصف حاله في فرقته إياها:

وكم من عبرة ذرفتُ فـلــــــــما      خشـيتُ عـيـونَ أهـلــي و اسـتحـيـتُ
نهضتُ بها مكاتمةً فـلـــــــــــما      خلوتُ ذرفـتها حـــــــــتى اشـتـفـيتُ

فتقول:

نَزَفَ البكاءُ دموع عينك فاسـتعرْ      عـيـناً لـغيرك دمـعـها مــــــــــدرارُ
ومن ذا يعيرك عينه تبكي بـــها        أرايتَ عـيناً للـبكاء تــــــــــــــــعارُ

و لستُ أدري والله… كأني بها قد خفت لوعتها، و برَدتْ لظى النيران في كبدها… و يبدو أنها بدأتْ تسلو… و لكن مازال هذا الفتى يرسلُ لها الإنذار تلو الإنذار:

فَـتَـعلّـمي أنْ قد كُلفتُ بـــــــكم      ثم اصنعي ما شئتِ عن عـــــــــــــــلم

لكن جوابها النهائي كان:

تمتع بـذا الـيـوم القصير فإنـــه      رهــيـن بـأيـــام الشـهور الأطـــــــاول

اعتقد أنه شعر باضمحلال الأمل لديها، فهاهو ذا قد طوى رداء الأمل، و سار في درب المستقبل – كما يظن أهله ومن حوله. لكنه حقيقةً، عاد أدراجه إلى الوراء !!
كان يبدو كـجيفة ملقاة في صحراء الزمان، ضائعاً من اسمه.. من تاريخه.. من مستقبله…
بها يمشي… و بها يسمع… و بها……… و … و …

ماذا أضيف أيضاً ؟!

أيها القارئ… إن يكن لديك الوقت الكافي فاذهب إلى مقبرة تسمى ” مقبرة الباب الصغير”[6] ثم سر بإتجاه الشمال، فإنك تجد قبراً: هيئته تدل على أن أحداً لم يهتم به… تجده و قد كُـتب عليه:

أما آن للهجران أن يتصرمــا      و للغصن غصن البان أن يتبســـــــــما
وللعاشـــق الصـّب الذي ذاب      و انحنى ألم يأن أن يُبكى عليه ويُرحما

قف عنده… اقرأ ما تيسر لك من القرآن الكريم… و ادعُ له… ثم ابكِ ما شئت… فإنـه قبر صاحبنا.

_________________________________

[1] مقتبس من علي الطنطاوي
[2] و لعله هذا ما قصده الشاعر بقوله: عيناك غابة نخيل ساعة السحر
[3] مقتبس من علي الطنطاوي
[4] علي الطنطاوي
[5] علي الطنطاوي
[6] في دمشق القديمة

Leave a Reply

%d